أيها الراعي البطريرك

23/09/2011
أيها الراعي البطريرك لا تخشَ السنّة العرب ما كانوا على الإسلام والطائف حمى مكونات لبنان، فلا تسقطوه زيارة الرئيس ميشال سليمان للصرح البطريركي، وتأييده اللافت لجولة البطريرك الراعي "الفرنسية"، بما تضمنته من مواقف في قضايا إقليمية وداخلية، سياسية ودينية، كشفت عن اضطراب خطر بين أطياف المجتمع اللبناني والمجتمعات العربية. 1 ـ واللافت في الزيارة الرئاسية، أن فخامة الرئيس "طوّب" البطريرك الراعي مرجعاً وحيداً لجميع مسيحيي لبنان والشرق الأوسط. نهنئ البطريرك بالتطويب الجديد. لكننا نفهم أنّ "الراعي"، بطريرك للموارنة في لبنان وسائر المشرق، أما أن يكون مرجعاً لجميع المسيحيين في المنطقة فلا بد من اعتماده من قِبلهم، ولم تقل بذلك سائر الطوائف المسيحية، لا في لبنان ولا في سوريا ولا في أي من الأقاليم العربية الأخرى، بل على عكس ذلك، فقد أصدروا بيانات رافضة كما سنرى. وعلى هذا يبقى التطويب الرئاسي سياسياً صرفاً، هدَف منه رئيس الجمهورية سحب البساط من تحت جنرال الرابية، الذي سبق وأعلن نفسه، في العام الماضي، مرجعاً لجميع المسيحيين في المشرق، ثم أصدر الجنرال عون ـ المرجع ـ مذكرات توجيهية، وقام بزيارات رعوية لبعض الموارنة في حلب، وعلى متن طائرة رئاسية سورية تقديراً لجهوده في الرعوية (!!!)، ضمن خطة مشتركة لمواجهة البطريرك صفير.وأخطر ما في الموقف الرئاسي اللبناني "إضفاؤه الشرعية الرئاسية" على مواقف (الراعي) الباريسية، والتي أثارت ردات فعل عنيفة في الأوساط: المارونية والإسلامية والعربية والسورية والفرنسية، وهذه الأخيرة حركت سفيرها في بيروت لإعلان الأسف.

2 ـ كنا بعد انتخابه، عقدنا العزم على طي مواقفه السابقة على تسميته بطركاً، وقلنا إنّ الرجل انعقد عليه اكليروس الموارنة، وحظي بموافقة بابويةـ فلا مانع من فصله كبطريرك عن تاريخه كمطران، خاصةً بعد أن أعلن شعاره (الشركة والمحبة) وهو ما فهمه الناس أنه تأقلم مع مقتضيات الوضعين اللبناني والعربي ...، إلى أن فوجئنا بتصريحاته "الفرنسية"، وإعلانه عن خشيةٍ مصطنعة على الوجود المسيحي في سوريا ودنيا العرب، إذا ما آل الحكم إلى أهل السنّة، ولم يتأخر رد الفئات المسيحية السورية، فقد رفضوا ما ادعاه البطريرك بتمثيلهم والتباكي عليهم، وذكَّروه أنهم مع إخوانهم المسلمين منذ مئات السنين دون خوف ولا افتئات، وهم جزء من هذه الأرض، ويرفضون استخدامهم كورقة سياسية، سواء من النظام أو من مرجعيات مسيحية في الخارج. ولم يتردد ميشال كيلو المعارض السوري بالإعلان، أن البطريرك الراعي وضع نفسه في سياق خاطئ، وأنّ المسيحيين في سوريا لا يتبعون له إلا قلة من الموارنة السوريين. وأمل كيلو أن يفهم جميع السوريين، أنّ الراعي يتكلم باسمه وباسم كنيسته فقط. وفي بيان آخر لناشطين ومثقفين مسيحيين سوريين (الشرق الأوسط في 17/9/11) أبدوا خشيتهم أن تكون تصريحات (الراعي) لإثارة حساسيات بين أبناء الوطن الواحد. كما ذهب كثير من موارنة لبنان ومسيحيه بمعارضة تصريحاته حتى أن النائب بطرس حرب خاطبه بقوله ( إنك أفهم مني بالدين قطعاً ولكنني أفهم منك بالسياسة حتماً).

3 ـ لن نناقش هنا طبيعة الثورات العربية ومن يقودها، فقد قدّر العارفون أنّ غالبية الشعب هم منتفضون. وقد أجبرت هذه الانتفاضات رؤساء تونس ومصر وليبيا وقريباً اليمن وسواها من الأقاليم، على دخول (محكمة التاريخ)، التي نبذتهم وجعلتهم نيرونيين (مفردها نيرون) يُضرب بهم مثل السوء على كل حاكم طاغٍ باغ. وما كنا نظن أن ينبري (البطريرك)، ومن فرنسا بالذات، لإعلان خشيته من ثوار العرب المنتفضين على الظلم والديكتاتوريات، طلباً للحرية "والديمقراطية" والكرامة والعدالة، ناصحاً الدولة الفرنسية أن تتأنى "في تغيير " الحكام والأنظمة فقد تقع البلاد في أيدي أهل السنة؟؟ ويُفهم من ذلك أن (الراعي) يعتبر الثورات العربية "صناعة أجنبية" ومنها المطبخ الفرنسي، رغم أن تلك الثورات طبيعية جداً بسبب أن الظَّلمة من الحكام قد تجاوزوا كل الحدود، فحُقَّ للناس أن ينتفضوا متمثلين بقول شوقي:أخي جاوز الظالمون المدى                      فحق الجهاد وحق الفداأما

إذا ما دعت ثورة الشعوب، فرنسا وبريطانيا وأمريكا وسواها، فهو أمر مفهوم، فقد راقبت الدول الأوضاع العربية، فأدركت جيداً أن التغيير آتٍ. وعلى هذا فإن من مصلحتهم أن يحجزوا لأنفسهم مقاعد في مساحات المستقبل القادم. ففي السياسة الدولية لا يوجد "أعمال خيرية" إنما هي المصالح والمكاسب، فإن تلاقت مصلحة الآخرين مع إرادة الشعوب المتعطشة للحرية والمنتفضة ضد الظلم والطغيان والفساد، فلا يعني ذلك أن تلك الدول هي المحرضة أو هي صانعة الثورات أو هي التي تصوغ "الأنظمة الجديدة"، فالنظام يصنعه ثواره وإن تآمر متآمرون وفي محاولة إجهاض بعض أهداف الثورات، إلا أن أماني "الشعوب" تبقى فوق المؤامرات، وها هي "الشعوب " العربية الثائرة تقدّم الغالي والنفيس من دماء شبابها ونسائها وأطفالها، رغم التنكيل الشديد والقوة العسكرية المفرطة، الضاربة على متن الدبابات والبنايات، وأيضاً على البغال والجمال، حتى الحمير الصابرة لم تنجُ من عدوان النظام عليها، فقُتِلَت بدم بارد، وهو ما يرقى إلى جرائم ضد الإنسانية وضد الحيوانية أيضاً، غير أن هذا كله لم يفتَّ في عضد الثوار، فاستمروا مصرّين على التغيير ونشد الحرية والكرامة.فحرام حرام التنكر لحق الشعوب بالكرامة وحكم رشيد، خاصة إذا ما بني هذا التشويه على حجج واهية وتخوين فاسد.

4 ـ ومن غرائب حديث البطريرك (الراعي) في زيارته الفرنسية إضفاؤه الشك على حكم الأكثرية السنّية، إذا ما نجحت ثورة "شعوبها". والسؤال: أليس من حق السنة أن يطبقوا (الديمقراطية) كما هي في مفهومهم، في نظام حكم يحكمهم منه من ينتخبونه، في أجواء حرة وكريمة وعادلة، أم أن (ديمقراطية الراعي) توجب أن تتحكم الأقلية، دينية أو حزبية أو كلاهما معاً، بأكثرية الشعب؟ لا ريب أنّ ذلك فكر غريب عجيب، ويكشف في وجهه الآخر "خشية الراعي" من احتمال حكم الأكثرية المسلمة في لبنان وتغيير معادلة الطائف. فالمسلمون اليوم،ـ سنَّة وشيعة، يبلغون الـ 70% من مجموع اللبنانيين أو أكثر، وهم في تزايد مستمر، بينما الآخرون يتراجعون عددياً . وتلك الخشية ليست جديدة ويتداولها من زمن أصحاب الشأن.فتفهم اللبنانيون السنَّة خاصة تلك الهواجس، فوافقوا على وثيقة الطائف التي أصبحت دستوراً ينص على توزيع مؤسسات الحكم وتوازناته، وبشكل يحفظ لمكونات الشعب اللبناني تمثيلاً مبنياً على الوجود المعنوي لا العددي، ويرفض السنة والعقلاء في لبنان الدخول في متاهات التبديل والتغيير من جديد، إلا بعد التطبيق الكامل ورصد العيوب، ليأتي التعديل ضمن منهجية سوية في أجواء آمنة ومتساوية ليس فيها أقوياء وضعفاء.5 ـ يعلم الجميع وبخاصة مسيحيو لبنان أن الطائف أبلغ ضمان لهم، وإن كانوا قلة فيه، فقد منحهم المناصفة، وفي ذلك أعلى درجات الإنصاف، شرط أن يستمروا متحدين مع نسيج المجتمع، فحذار حذار من الخروج عن هذا النسيج ومن إسقاط الطائف، فبسقوطه سيدفع مسقطوه، ممن حماهم الطائف، ثمناً فادحاً ولات ساعة مندم...!!6 ـ لقد قارب الرئيس نجيب ميقاتي في زيارته البروتوكولية للصرح الديماني منذ أيام هذا التخوف غير المبرر فقال: (إننا كلنا مواطنون ولسنا أكثريات أو أقليات، وإن المسلمين السنة في المنطقة العربية يشكلون الأكثرية، وان السنة في لبنان قد شكلوا الشريك الإيجابي في بناء الاستقلال البيان الختامي للزيارة 16/9/2011). وليس أصرح من هذا الكلام إلا ما ذكره ميشال كيلو في حديثه للشرق الأوسط من أن الراعي، هو رئيس أقلية مسيحية في المشرق، وقسم كبير من المسيحيين اللبنانيين حلفاء للسنة في لبنان متسائلاً (لماذا إذاً تخويف مسيحيي لبنان من السُّنة في سوريا؟!). علما أن سنة سوريا في أول عهودها الاستقلالية حملت فارس الخوري إلى رئاسة الحكومة السورية وكان تعاوناً وثيقاً ضرب به المثل.7 ـ بصراحة، ما يظهر من كلام (الراعي) "الفرنسي" أنه يخشى "الإسلام"، ويخوّف منه رعاياه وفرنسا والدول الغربية، غير أنه، بالتأكيد، يخطئ في ذلك بامتياز: فالإسلام يدين به غالبية العرب ومليار مسلم غير عربي وليس من مصلحة النصارى في لبنان معاداته وهو دين يُحرِّم الظلم على عباد الله جميعاً بغض النظر عن الدين او الجنس ويحتم الاحترام والتعاون.لن نعود إلى التاريخ لنكشف عن أسماء غير المسلمين، الذين شاركوا الخلفاء في تسيير أمور الدولة وهم كثُر لكننا نشير إلى مثلٍ قريب، حين وقف بطريرك النصارى في دمشق زمن الملك فيصل الأول ليعلن: (أبايعك أيها الملك على الإسلام وليس على أي شيء آخر، فالإسلام بيننا وبينك عهدُ الله وميثاقه، فقد منحنا العدل والأمن ولم نُظْلَم به أبداً فتأمل.!!.8 ـ وإذا ما ادعى البطريرك الراعي، أن هجمات وقعت، من زمن ماضٍ، على كنائس في العراق ومصر، فالجواب على ذلك يسير والبطريرك عالم بالجواب من أنّ من قام بذلك هم مخابرات الأنظمة التي تحاول أن توقع الفتن بين فئات المجتمع، لكي تبقى جاثمة فوق أعناق "الشعوب"، أما خشيته المخَوِفَة من تقاتل السنة والشيعة في بلاد الشام فنقول: (إن الصراع إذا ما وقع، لا سمح الله وهو لن يقع بإذن الله، فمرده ليس إلى الإسلام، بل إلى المؤامرات والمخابرات والتحريض والفتن التي يزرعها الآخرون الذين لا يريدون الخير لهذه الأمة وأوطانها.ونقول لسيادة البطريرك الراعي : مهلاً لا تتعجل ،عُدْ إلى دراسةٍ معمقة واقرأ وعدّل، لتلتقي مع أكثرية المجتمع اللبناني والعربي فعلاً لا قولاً، في (الشركة والمحبة) .ولنتعاون في إحباط جميع المؤامرات لنبق معا كما كنا في الماضيات عبر القرون. ومن المفيد ذكره هنا انه بتاريخ 20/9/11 انتقل البطريرك الراعي إلى البلمند ملتقيا البطريرك هزيم اغناطيوس بطريرك الأرثوذكس فاصدرا بيانا أكدا فيه وجوب ( نصرة القضايا الوطنية والعربية) كما ذكرا (بدور المسيحيين التاريخي في المنطقة وبشراكتهم في نهضة شعوبها) مؤكدين (أن الحماية لأية فئة هي من الدولة القائمة على العدالة والمساواة) وما نتمناه أن يكون هذا البيان بداية لافتة لطي مواقف الراعي الباريسية على أمل أن يستجيب (الراعي) لـبقية امنياتنا.

9 ـ غير انه ومن باب العدل والإنصاف، نشير إلى أن للبطريرك الراعي في الرحلة الباريسية موقفاً مناسباً هو رفضه توطين الإخوة الفلسطينيين في لبنان (ونحن نرفض التوطين في الدول العربية الأخرى)، فهؤلاء يجب أن يعودوا إلى أرضهم، نقول ذلك بقطع النظر عن بعض الخلفيات التي فرضت على (الراعي) إعلان ذلك، ومنها ربط السلاح بعودة اللاجئين، ونخشى أن يكون ذلك قناعة راسخة عنده لا مناورة سيئة لتعميق حلف الأقليات في الشرق لمواجهة الأكثريات ضمن معادلات معقدة، لن ينجو من نارها أحد، ولا يصح مطلقاً أن يقحم أحدٌ ، رجال دين أو ساسة، البلادَ في مثل هذا الآتون الذي يحرق الجميع. كما أن من مواقف الراعي "الفرنسية"، أنه حذّر من تفتيت العالم العربي، وفي ذلك إشارة إلى مخطط الدويلات الطائفية التي لن يقبلها العرب المخلصين... والعجيب أن ما طرحه البطريرك الراعي في باريس كرره بالأمس الرئيس الأسد في دمشق، فهل هي مصادفة أم اتفاق أم اقتباس؟