سماحة المفتي: استقلْ قبل أن تُقَال

30/05/2013
رسالة أخيرة قبل فوات الأوان سماحة المفتي: استقلْ قبل أن تُقَال...‏19‏ رجب‏، 1434= ‏28‏/05‏/13للدكتور محمد علي ضناوي.
الشيخ محمد رشيد قباني أمينُ فتوى بيروت، هو غير الشيخ محمد رشيد قباني مفتي الجمهورية اللبنانية في السنوات الأخيرة.عرفناه تقيا ورعا يحب الخير ويلتزمه، ويهتم بمصالح المسلمين العليا وينافح عنها، وأذكر عندما زرته في بيته المتواضع في بيروت ــ عند تسميته قائما بأعمال مفتي الجمهورية، باعتباره أمين الفتوى في بيروت ــ كان حريصا على الشورى، مرجّحا رأي ما توافق عليه المسلمون، مُفضّلاً الوحدة على الفرقة، داعيا إلى تفضيل المصلحة العامة على الخاصة.
في أوائل التسعينات، ضمّني اجتماعٌ حضره الرئيس شفيق الوزان، والرئيس رشيد الصلح، والوزير جميل كبي في منزل الأول، كان موضوعه التداول في وضع الإفتاء، وأنّه لا يجوز أن يستمرَّ منصب مفتي الجمهورية شاغراً مشغولاً بالوكالة. غير أنّ الاختلاف بالرأي ساد الموقف فلم ينتصر بعضُهم للرأي الذي قلته، بأن الرجل (محمد رشيد قباني) وإن كانت تنقصه الخبرة في الأمور العامة، إلا أن هذه مما تُكتسب، خاصة إذا توفرت له بطانة صالحة، فالصفات الأساسية الأخرى تلازمه ويلتزمها، وآخرها أنه من بيروت، والعرف يقضي بذلك.ويوم التقينا الرئيسَ الشهيدَ رفيق الحريري، سألَنَا وسألناه متى تنتهي القائمقامية في دار الفتوى، ويصبح للدار مفتٍ أصيل، هو الدكتور محمد رشيد قباني؟ أجاب، رحمه الله،: (الناس لم يتفقوا عليه، ولا زالوا مختلفين)... ثم كانت لنا مداخلة، يبدو أنّ الرئيس قد اقتنع بها. فما هي إلا أشهر معدودات حتى تمت إجراءات لم نكن موافقين عليها، حيث اختُصِرت الهيئة الناخبة في يوم واحد، ودعيت إلى انتخاب "المفتي" ثم أصبح أمينُ الفتوى القائم مقام مفتياً للبنان.وعندما بايعه جمهور المسلمين في أيام التهنئة، في دار الفتوى، التقيناه مع وفد كبير من طرابلس، قدّمنا له تذكاراً، مصحفاً كبيراً، رمزاً للعهد الذي بيننا وبينه، على أن يلتزم ما فيه من مبادئ وقيم، أولها: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)، وثانيها (وشاورهم في الأمر)، وثالثها (وتعاونوا على البر والتقوى)، (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) .. وبعينين دامعتين حمل مفتي الجمهورية الجديد المصحفَ وقال: (هذا عهدي لله ولكم وللمسلمين: عامتهم وخاصتهم، أن أسير على مبادئ القرآن، لا أحيد عنها ما حييت). ولا يلومنّ أحد موقفنا القديم فنحن لا نعلم الغيب (وما كنا للغيب حافظين) يوسف. سارت الأيام والسنون، وهو يحاول أن يَترقّى في فهم القيادة وممارستها وهو على رأس الهرم، ضمن منطق الترتيب والتطوير والخطأ والصواب. ثم أخذ مبادرات كبرى في كثير من الأمور. وكان من أبرزها التزامه الموقف الإسلامي الجامع، و (ثورته) المباركة في وجه مشروع الزواج المدني المقرّ في مجلس الوزراء، والمرفوض من الرئيس الشهيد وخمسة من الوزراء... فإذا بالمشروع ينام في أدراج الرئيس الحريري رحمه الله بعد رفضه توقيعه، ولعل هذه من أكبر حسناته وأعظمها. وإذ استشهد الرئيس الحريري بأيدي الغدر والتآمر، وقف مفتي الجمهورية وقفة مشهودة، وكذا الأمر عند انتصاره لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة، ضد من اعتصموا وأحاطوا بالسراي الكبير. كما أن التزاماته بنظام المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في كثير من الاحيان، كل ذلك جعله، في قيادته العامة، مقبولاً، على أمل المزيد .غير أن التعديل في المرسوم 18، والذي أدى إلى تصغير الهيئة العامة لمجلس الانتخاب، عدّل أيضا ولاية مفتي الجمهورية ومفاتي المناطق. وبعد أن استقر على سدة الإفتاء، اشتدت عليه فكرة مدى الحياة كولاية تراود مخيلته، وبسببها تتالت سلسلة أخطاء في مواقفه. وولج في آراء وممارسات جعلته في حالة تصادمية مع الأكثرية الساحقة من المسلمين، وغدا مكسر عصا على طائفته بدل أن يكون لطائفته. وكان ذلك بنصيحة الذين وجدوا مصلحة لهم في ركوب موجته (واحتلال الدار)، بينما هو راح  يستسلم لهم بعد أن كانوا ضد مسيرته الصادقة يوم كان رأسها.وظن مفتي الجمهورية، أو هكذا أوحت له بطانته الجديدة، أن (الآخرين) أيّاً كانوا، لن يجرؤوا على مخاصمة مفتي الجمهورية ولا حتى إقالته. وانه إن ثبت في وجه الجميع وتحدى، كان له نصيب (الأسد). علماً أن (الأسد) لن تكون له حصة، فهو مستبد ملعون لا يملك إلا السوء والهدم والقتل والخراب، ويراهن على من هو عدو للأمة.وقع المحظور في الطائفة، ودخل مفتي الجهورية في حرب مع مجلسه الشرعي، وهو المجلس الأعلى للطائفة، وراح لا يستجيب لأية دعوة للتفهم والتفاهم. ثم ذهب بعيداً في تفريق الكلمة، متشبثاً بألفاظ وحيثيات يرفض بها (الاتفاق) ويصر على الخلاف، واستمر في رفض الاستجابة للنداء تلو النداء الصادر عن قيادات ومسؤولين، ليكون عامل وحدة لا تفرقة، كما عاهد يوم تهنئته بالإفتاء، وفي يده القرآن. وتطورت الخلافات ليكون القضاء الإداري اللبناني والجزائي ساحة خصومات  المفتي من جهة المجلس الأعلى، ورئاسة الحكومة من جهة أخرى. ثم لما صدرت القرارات لغير مصلحته أعلن أنه لا يلتزم بأي قرار قضائي، ولا يلتزم بقرارات المجلس الشرعي القائم. بينما استمر إصدار  تعيينات لموظفين على غير القواعد والأصول، ثم وقع في فخ انتخابات (المجلس الشرعي بالتزكية) وهميةٍ وصُوَرية وباطلة، لمجلس شرعي يؤيده في خطواته رغم قرار مجلس شورى الدولة.وأخيراً، توَّج قراراته الباطلة بإنهاء خدمات بعض مفاتي المناطق وتعيين آخرين في مهزلة أضرت بالطائفة أيما إضرار، خاصة بعد أن كادت دار الفتوى في صيدا تشهد سفكاً للدماء لولا الموقف الحكيم لمفتيها الشيخ سليم سوسان وحكمته. ثم نال من مفتي زحلة والبقاع الشيخ خليل الميس، داعية البقاع وشخصيته الفكرية والدينية الأولى فأقاله وكذا عدد من المفتين بأسلوب كيدي وانتقامي واضح، علماً أنه لا يملك هذه الصلاحيات. وأخيراً صدر عن مجلس شورى الدولة قرار بإبطال قرار المفتي قباني في تعيينه مفتٍ لعكار وآخر للبقاع، وستكر السُّبحة على الآخرين...وتتابع المفاجآت، ليُطلّ سماحته صباح الإثنين 27/5، ليتحدث (إلى اللبنانيين) عن الانتخابات النيابية وقانون الستين والتمديد، فيرفض ويحذر. ثم يتحدث عن صاروخين مدانين أطلقا على جانب من الضاحية الجنوبية من مجهولين بشكل مستفيض، ثم يخصّ طرابلس بموقف، بعد أن سكت أكثر من عشرة أيام عن بدء الجولة السادسة عشرة الأخيرة، والتي قصفت بصواريخ ومدفعية لا بصاروخين فحسب، وسقط فيها أكثر من 30 قتيلاً ومئات الجرحى، مع تدمير كبير في المباني والاقتصاد والصحة والتعليم. وقد فوجئ المراقبون، أن سماحة مفتي الجمهورية لم يتكلم مطلقاً عن حزب الله في إعلانه الانضمام للقتال منذ أشهر بجانب الأسد، وإعلانه بدء حربه الضروس ضد القصير وأنحاء سوريا، وأنه مشارك بقوة في قتل الأطفال والنساء والأبرياء، وتوتير المنطقة برمتها. فيبدو أن سماحته لم يسمع خطاب السيد الذي سبقه بـ 36 ساعة، ولم يسمع بهجمة "السيد" على إخوة المفتي المسلمين (السنة)، وكأن الأمر لا يعنيه. مما يُفضي إلى شبه قناعة أن سماحته بات محكوماً بإملاءات، ما كنا نظن أنها نالت منه إلى هذا القدر المخيف. ونحن في غمرة هذا السياق القاسي، وظروف البلد تشتد صعوبة، لا بد لنا من التوقف عند مفرق كبير، هو أنّ مفتي الجمهورية يمثل المسلمين ولا يمثل نفسه، ويمارس صلاحياته باسمهم لا باسمه. وعليه،بداهة، أن يحترم آراءهم وينافح عن مصالحهم العليا. وإذ نقض عهده ووعده وبدّل وغيّر، فيكون هو مسؤولاً عن نكوله. وقد سبق أن دُعي، منا ومن غيرنا من قادة الرأي والمسؤولية، إلى إعادة النظر في قراراته وتصرفاته، فرفض. وكنا نظن أنه سيعود عن الخطأ وينيب  ويستغفر، لكنه أبى وأصر، وصار وجوده على رأس الطائفة أكثر ضرراً من إقالته، وهو ما لا نتمناه له، بل نتمنى أن يحتذي بما فعله مفتي الجمهورية الشيخ محمد علايا رحمه الله، عندما طُلب إليه أن يستقيل فاستجاب مشكوراً واعتزل. وجاء على رأس دار الفتوى القاضي الشهيد الشيخ حسن خالد رحمه الله وطيب ثراه، فأثرى الدار وأعطاها العلو والقوة. أما إذا أراد سماحته أن يستطلع أخبار رؤساء الطوائف الأخرى، باعتباره يتمتع بذات المزايا والبروتوكولات، فإنّ له بالبطريرك صفير (قدوة حسنة)، فقد طُلِبَ منه أن يستقيل، وهو في قمة تألقه في الدفاع عن لبنان ومسيحييه، فاستجاب واستقال، وبقي متابعا لشؤون البلد والطائفة كعضو أصيل ناشط إلى جانب بطريركها الجديد الراعي. لكل ما سبق يا سماحة (المفتي الأكبر): اصغِ إلى كلمة سواء، نحن في لبنان في وضعٍ خطرٍ علينا وعلى لبنان وبلاد الشام والأمة جمعاء، فلا يجوز أن تبقى هكذا، خيارُك في مكان آخر، وهو خيار ضد المسيرة والأمة والمصالح العليا للمسلمين، وبتنا جميعاً في الطائفة، ولبنان وبلاد الشام بحاجة إلى مفتٍ جديد. فلك يا صاحب السماحة أن تختار بين الاستقالة أو الإقالة.لكننا ندعوك إلى الاستقالة بإرادتك، فإنّ الناس جميعاً ــ كما تظن ــ لن يتألموا إن أُعفيت من مهامك أو أُقِلتَ من منصبك، غير ان بذلك ستكتسب السابقةَ الأولى في تاريخ الإفتاء في لبنان (الإقالة) وعلى نفسها تكون قد جنت براقش..بكلمة : استقلْ قبل أن تُقال وتذهب إلى......ولا حول ولا قوة إلا بالله.