زهير الشاويش ...كان أمّةً وحدَه

11/06/2013
أبو بكر كما كان يُكنّى، زهير الشاويش رحمه الله رحمة واسعة، شخصية إسلامية مرموقة، داعية نبيه، محقق بليغ، وناشر للعلم بكرامة ،عالِم عَرَف زمانه واستقامت طريقته. حتى كاد يُعرف بأسلوبه الخاص، وقراءته البصيرة، وتحليله العميق، وفهمه الدقيق، ونظره الثاقب، وسياسته الحكيمة، وجهاده المبرور، وحنكته ودرايته، ودُعابته وطُرفته، وخلافه واختلافه، وهدوئه وغضبه، وكرمه ومحاسنه،... وعفوه وتشدُّده الى أن يظهر حقُّه... هو أمة، أكاد أجزم، أنه وحده، لكثرة صفاته وأعماله، وخصاله وأفعاله، ومناقبه ومحامده، في أسلوب مميز ومنهج خاص.
 
1 ـ رجل من أهل الشام، رابَطَ في حيِّ الميدان بدمشق قاتل الفرنسيين واليهودَ على أسوار القدس وفي فلسطين. وقبل ذلك وأثناءه وبعده درس وتلقّى، وأبحر ودقق. كان مكتبه في "الحلبوني"، الزقاق الهادئ في قلب دمشق، محطةً للوافدين ولطلبة العلم، وللراغبين في الاطلاع ورصد الثقافة الإسلامية المتجددة. يقصدون، في "الحلبوني"، ارتشاف الحليب الصافي الذي يخرج من بطون الحقيقة ناضحاً بالبيان، يستقيه من رحيق القرآن والسنة المطهرة ،ومن أقوال الفقهاء والعلماء، في العقيدة الصحيحة، والفقه الرصين، والحديث الأثير، والعلم المنير، والتاريخ غير المغلوط ،والقراءة غيرالمبهمة، والعطر النادر الفواح من كل أبواب علوم الإسلام .
2ـ ومن "الحلبوني"، الزقاق الفرح بالعطاء ،إلى مجلس الشعب في برلمان ما بعد الانفصال، ليُثْبِتَ الشاويش، مع أخويه، الخطيب والعطار، أنّ الرجال الرجال لا يُغَيِّرون مفاهيمهم السياسية كلما تقلّبت الأمور أو انقلبت الموازين... بل يصمدون على إيمانهم بثوابتهم ومبادئهم. أين منهم سياسيو هذا الزمان، وان كانوا قادةً في حركات ومنظمات!!!.
3 ـ ومن عمق دمشق إلى رابية الحازمية في بيروت قُرب "الصيّاد" .وكأنه باختياره ذلك المكان ، أراد أن يؤكد مهارته في الصيد الثمين، واختيار المناسب من واحات برِّ العلم، ومن أعماق بحار المعرفة. فكان المكتب الإسلامي أو كان الشاويش هناك، منارةً في وسط ليس وسَطَها، وفي ظُلْمَةٍ لا تضيء بنورها... لكن حسبُه أن صمد في الحازمية، مرابطاً في حرب أهلية شرسة لم تُبقِ ولم تذر، ومع ذلك بقي مع مكتبته الكبرى، ولله الحمد لله، سليماً معافى. وهي المكتبة النادرة في مخطوطاتها وطبعاتِ كتبها القديمة والحديثة... وقد وضعها رحمه الله، دون تردد ولا منّة، في خدمة طلاب العلم والمعرفة.وكان فوق ذلك يغار عليهم، فيُرشدُهم ويُرشِّدُهم وكأنه المشرف على أطروحاتهم والمناقش لها.
4 ـ بفضل الله، ثم بفضل سياسته وفطنته وذكائه ، غدا لبنانياً من الطراز الأول. فانضم إلى المجتمع اللبناني مؤثر فيه وفي مقاماته، وفي جمعياته ومنظماته، راغباً في الجمْع، مندداً عند الاختلاف، متفهماً لوجهات النظر، ناصحاً بأمانة واضحاً في مرونة. وبقي... أبو بكر الشاويش رحمه الله في كل فنونه وتنقلاته، بين أقطار العروبة والإسلام، محتضناً ثلاثة لا يتخلى عنهم: الكتاب فلا يدعه ،والعلم فلا يتركه، والتقدير والاحترام لمن التقاهم فعرفهم ثم أحبهم.
5 ـ ومع أننّي عاصرتُ الشيخ زهير، ودافعتُ عنه أمام القضاء اللبناني في أواسط الستينات من القرن الماضي،مع زملائه قادة الحركة الإسلامية: عصام العطار، وعمر بهاء الأميري، والدكتور الشاوي، لما أودِعُوا، سجن الرمل بأمرٍ من المخابرات المصرية آنذاك، .. فوجدته،كما إخوانه، قوياً بحقه، غير هياب بالمجريات، مدركاً أنّه المنتصر في النهاية ومن معه. وكان ما كان. وإذا به أحد أعلام لبنان، كما هو احد أركان العلم في بلاد الشام والعالم الإسلامي، فانحسر الباطل وخسر، وصمد المحقق الفقيه العالم المجاهد على أرض لبنان وربح.
6 ـ لم ينسَ أبو بكر رحمه الله، إخوانه في المؤسسات الخيرية الاجتماعية والصحية والفكرية. وان أعجبْ، فعجبي تجشّمه متاعبَ الانتقال من الحازمية إلى طرابلس، قبل مغيب شمس يوم احتفال بيت الزكاة الخيري في رمضان، فلم يمنع أبا بكر، رحمه الله، مرضٌ ولم تقعد به حيلة، بل شدَّه حبُّ الخير وأهله، ليشارك البيت، شرف الإفطار مع المحسنين ومجموعةٍ من الأيتام، ثم بعد ذلك يسمّي مِنْ زكاته وخيراته نصيبا يلهمه  الله عليه.
7 ـ روى الإمام أحمد عن رسول الله r: (لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة، لأخرج الله عمله للناس كائنا ما كان). فكيف إذا كان عمله في مكتب لنشر الكلمة والفكرة والأسلوب ،كما هو حال مكتب أبي بكر الشاويش..في الحازمية ببيروت، ومن قبله في "الحلبوني" بدمشق، يدفع بمئات وآلاف العناوين إلى المكتبة الإسلامية، منها الكتب الصغيرة، وبعضها مجلدات ضخمة ،ولكلّ فيها، للشاويش مقدمة للكاتب والكتاب، فيكشف بعض المضامين أو يعلق عليه، مخالفاً أو موجِداً فيه علة تقْدحه، لكنه مع ذلك يقوم بنشره احتراماً للرأي الآخر، إلا إذا ما مسّ معلوماً من الدين بالضرورة.ومن مقدمات كتبه التي نشرها أو حققها أو عُرف بها، كانت مجلداتُه الثلاثة. ومقدماته تلك ليست ترفاً فكرياً أو تمهيداً واجباً، بل هي منهج في العلوم المختلفة ،يكاد قارئها يرى فيها معالم أساسية لعلم الحياة الإسلامية الزاخرة بحضارة سامقة ، وعلم وفقه وسياسة ودراية، وأخلاق وفهم رشيد .وكأن زهيراً رحمه الله، أصرَّ أن يمسك بالقارئ، ينتقل معه من محطة إلى أخرى، يدله على الطريق ويضيء له السبيل.
8 ـ ومع ذلك كله لم يشعر أبو بكر، رحمه الله، أنّه فوق الخطأ.فقد أدرك أنّ الخطأ كائن لا محالة... خاصة وأن الإنسان في الحياة معرض للخصومات والمجادلات، والاختلاف أو الموافقات، ولكلّ من ذلك أدبُه .لكن هيهات هيهات أن ينجو المرء من مظنَّة أو تُهمة، أو قذْفٍ أو فرية. وهيهات أن يتحمل فوق الطاقة ولو كان متمتعاً بالحلم قادراً على الصرعة، مالكا لزمام نفسه ... فأعجبني أبو بكر، رحمه الله، حين قال في مقدمته لطبعة (ضعيف سنن النسائي) نقلاً عن الإمام الشافعي: (هذه الكتب التي ألّفتُها وأنا اعلم أنّ فيها غلطاً ولو عرفته لأصلحته ولكن أبى الله العصمة لغير كتابه). فعقّب الاستاذ أبو بكر على كلام الشافعي (وهذا أحسن ما قدرنا عليه وأننا على استعداد للرجوع إلى حق إن ظهر لنا أو نُبْهِنا إليه). ولعمري فذاك هو موقف العلماء، يقولون ما عندهم، ويعلنون الأوبة إلى الحق إن جانبوه، وهو المعْلَمُ الأكبر من معالم أدب الخلاف والجدل والاختلاف. ويمكنني أن أقول اختصاراً: إن كان ابن خلدون المؤرخ والفيلسوف والعالم عُرِف بمقدمته في علم الاجتماع لكتابه في "تاريخ الأمم"، فإن أبا بكر رحمه الله عُرف وسيُعرف بمقدماتِه المتميزة، في علوم القرآن والتفسير والسُّنة المطهرة والفقه والعلم والفكر ومستجدات حياة القرنين العشرين والواحد والعشرين.
9 ـ مهما قلنا في أبي بكر رحمه الله، فإننا نعجز عن الإحاطة بمحطاته المختلفة، وبحياته المديدة. ولن يحيطه إلا سجله الذي ينشره ربه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. وقلبُ زهير ـ رحمه الله ـ كان قلباً كبيراً مليئاً بالإيمان، ترجمهُ إلى أعمال صادقة. فليهنأ بإذن الله بمقام منير عند المقتدر المليك.