وصايا للإخوة الحُجّاج

12/10/2013
د. محمد علي ضناوي

 إخواني وأخواتي الحجاج:

ها أنتم تلبّون دعوةَ الله إليكم، وقد تركتم الأهل والولد، والمال والبلد، وخرجتم لحجِّ بيته الكريم، وهو أوّل بيت أُسّس لله في أرض الله تسألونه عنده فيعطيكم، وقد قال رسولكم الكريم(صلى الله عليه و سلم) (الحجاج والعُمّار وفد الله، دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم). رواه البزار ورجاله ثقات..
 

1 - أولُ ما أوصي به نفسي وأوصيكم، التّوبةُ النصوح إلى الله سبحانه، وإخلاصُ النّيةِ الصادقة له. فالحجُّ عبادة، والعبادة لا يقبلها الله إلا خالصة له، فأخلصوا نواياكم لربّكم، و(إنما الأعمال بالنيات) متفق عليه.
2 - في بداية انطلاقتكم إلى أرض الله الحرام، وطِّنوا أنفسَكم على الطاعة التامة، وعلى محبّة بعضكم لبعض خاصةً في قافلتكم المختارة. واهجروا القيلَ والقال، {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} البقرة/197. واسمعوا لأمير قافلتكم وأطيعوه وتعاونوا معه، وثِقُوا أنّه لكم ناصحٌ ــ بإذن الله ــ أمين، ولسوف يعلّمكم ما تعلّمه من أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ قال: (خُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي أَنْ لَا أَحُجَّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ) رواه أحمد.
3 ــ اعزموا إخوتي الحجاج، على أداء المناسك كما هي، وباعتدال، تحقيقاً لإرادة الله {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة:185. وتنفيذا لأمر المصطفى صلى الله عليه و سلم: (يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا) رواه أحمد. فـ {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} البقرة/286.
وليكنْ أحدكم شغوفاً رحيماً بنفسه وبسائر حجاج وعمّار البيت، وليكن هيناً ليناً خلُوقاً يألف ويُؤلف. والتزموا بالإرشادات الطبية والأمنية التزاماً كاملاً ولا تجتهدوا، فهما أمران لا اجتهاد فيهما. واحرصوا على عدم التدافع ما استطعتم إلى ذلك سبيلا، وتذكروا جيداً أنّ النظافة من الإيمان، وبخاصةٍ في أماكن الحج والعبادة.
4 - سترتَدُونَ أيها الإخوة الرجال، قبل الميقات المكاني، لباسَ الإحرام، وتُلبّون مع النساء بالعمرة أو الحج أو كليهما معاً. وما يجب أن تعلموه أنّ لبس ثياب الإحرام والتلبية معه يُذكّرانكم بوجوب انقطاعكم عن بعض ملذات الدنيا، وقد أباحها الله لعباده قبل وبعد الإحرام، أما خلاله فتُمنع وتُحرّم تأكيداً لمعنى الحج وحرمته. وهو تحريم يُنمّي فيكم قدراتِ الامتناع عما حرّم الله، مهما كانت الدوافع أو تعدّدت الرغائب.
5 - بعد ساعات، ستكونون وجهاً لوجه أمام كعبة الله الشامخة العزيزة الكريمة، هو لقاءٌ كَمْ حلمتم به من قبل وسعيتم من أجل تحقيقه. وتلك، لعمري، لحظة روحية عبقة. كيف لا وصلاتكم طيلة حياتكم تؤدونها إليها؟ فادعوا الله أنْ يزيدها رفعةً ومهابةً وتشريفاً، وأن يحميها على مرّ الزمن وتعاقب الأحداث.
واعلموا أن كعبة الله بُنيت في نقطة اختارها الله سبحانه في وسْطَ أرضه، على خطِّ اتصال دائم بالبيت المعمور، في السماء السابعة؛ فهي أسفله والمعمور يعلوها. وقد أقسم الله به في سورة الطور فقال: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} الطور/4.
حافظوا على وضوئكم خلال طوافكم فأنتم في عبادة، وأبشروا بتواصل مرجوٍ مع الله جلّ في علاه.. تضرعوا من أعماقكم واطلبوا ما تريدون، فليس بينكم وبين الله حجاب. وهناك أكثروا من الدعاء ورددوا قوله تعالى {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} كما أرشدنا نبي الله. فهناك عند الركن اليماني من الكعبة الشماء تتزاحم الملائكة في سبعين ألفاً أو أكثر يتنافسون، أيُّهم يفوز بحمل دعائكم، ينقله إلى من سمعه، لحظة خروجه من قلوبكم وألسنتكم. 
هنيئاً لكم طوافكم حول كعبة الله، وهنيئاً لكم دعاؤكم، لجُّوا فيه وألِحُّوا به عليه سبحانه، فقد وعدكم ربُّكم وعداً حسناً فقال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} غافر/60. وها أنتم في بيته الكريم وعند كعبته الشريفة فاغتنموا ذلك ولا تُقَصِّروا.
6 ــ اعلموا أن قدسية الكعبة ليست في أحجارها، وإنما هي في رمز وحدة أمتنا، وفي جمعها لنا من كل فيافي الأرض، ومن لدن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام إلى اليوم الموعود، وصدق الشاعر عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله إذ قال:

الكعبةُ الشمّاءُ في مَذهبيْ
قيمتُها ليستْ بِأحجارِهـا
والقربُ من خالقهـا ليس
في تَشَبُّثِ المرءِ بِأستارهـــا
قُدسيّةُ الكعبةِ في جمعِهـا
أمّتَنا من كلّ أقطارِهــا
وأنها مِحوَرُ أمجادِهــــــا
وأنَّها مصدَرُ أَنوارِهـا
وكعبةُ المؤمنِ في قلبـــهِ
يَطوفُ أنّى كانَ في دارِها

7 - اُتركوا أيها الإخوة الحجاج، وأنتم في بيت الله الحرام، لقلوبكم الخشوع، ولعيونكم الدموع، وتذكروا أنّ جدَّكم إبراهيم بناه مع أبيكم الذبيح عليهما السلام، بعد أن أقامت في أرض «الحرم» جدّتُكم هاجر ووليدُها إسماعيل، يشدُّ أزرها بأنّ الله لن يضيّعهما، فسعت هاجر بين الصفا والمروة جادة في طلب الماء والرزق مع يقينها انها شدة عابرة تنقضي بأمر الله حتى تفجر الماء وجاءهما الناس، فغدا سعيها شعاراً للحج وركناً. ثم كانت زمزم طُعْماً لمن طَعِمَها وسُقْياً لمن سقاها، وشفاءً لمن تداوى بها وعلماً لمن أراده بها، فهنيئاً لكم شرابكم وطعامكم وشفاؤكم وعِلْمُكم.

 

8- اُذكروا أنَّ نبيَّكم محمداً (صلى الله عليه و سلم) كان هنا عند الكعبة المشرفة مع صحبه الأبرار، يمارس أقصى درجات الحزم في رفض الشرك بالله، وأحسنَ الأساليب في دعوة قومه إلى توحيد الله. وهنا في البيت الحرام، كانت الآيات تتنزّل، وكانت قريش تؤذي النبي والمؤمنين، فلا يزيدون عن قول (أحَدٌ أحَد). فاهنأوا يا حجاج بيت الله بعَبَق النبوّة الأولى، واستنشقوا أريج أنفاس النبي (صلى الله عليه و سلم) وصحبه الكرام، وقد كانت تمتزج بأجواء البيت وكعبته الشماء.

 

9 ـــ قبِّلُوا الحجرَ الأسود إن استطعتم وبقلوبكم لا بشفاهكم، أو أشيروا إليه باليد اليمنى وقبلوها ففي ذلك بركة، فحسبُ الحجر فخراً وشرفاً أنْ حمَلَهُ نبيُّكم بين يديه الشريفتين، ووضعه في موضعه من الكعبة العظيمة، وقولوا مع الشاعر الملهم:

 

الحجرُ الأسودُ قبّلتُهُ

 

بِشـفَتَيْ قلبـــي وكُلِّي وَلَـــــهْ

 

لا لاعتقادي أنّهُ نافعٌ

 

ولكن لِهُيامِـــي بالذي قبَّلــــه

 

ْمحمَّدٌ أطهرُ أنفاسِـهِ

 

كانت على صفحاتِهِ مرسَلَه

 

 

 

10 - عند انتهاء طوافكم صلّوا ركعتين عند مقام إبراهيم أو وراءه على امتداد الحرم، إيذاناً بختم الطواف بالصلاة وكأن الطواف ابتهال ينتهي بالصلاة {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} البقرة:125. واقرأوا في الركعة الأولى بعد الفاتحة بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} الكافرون:1. وبالثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مما يجعل الطواف والصلاة توحيد لله وبراء من الكفر والكافرين.

 

11 ـ في يوم عرفة أكثروا من الابتهال الخاشع والدعاء النافع، وارفعوا أكفَّ الضراعة، واتركوا لألسنتكم أن تلبي من أعماقكم (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك). وبعد استشعاركم أنّ قلوبكم لامست رحمة الله وأنّ أرواحكم طافت بعفو الله وأنّ نفوسكم أعتقت من النار بعد ذلك كله أبشروا بعفو من الله ورضا من بعد إذنه. هنالك، وأنتم في عرفات الله وبين يدي الله، وبعد النفرة المباركة والإفاضة الرائعة، ثقوا بأنّ المخاض قد آن أوانُه، وأنه مغفور لكم، فها أنتم ترجعون في تلك الساعة من ذلك اليوم الأغرّ، كيوم وَلَدَتكم أمهاتكم على ملأ ٍكبيرٍ من الناس، كلٌ يشهد على الآخر بيوم ميلاده الجديد، بأنَّ الله قد غفر له. وتعودون إلى دياركم ومعكم صحائفكم البيض، ليس فيها ذنب ولا جُرْم، فاحرصوا أن لا تُكتبَ فيها خطيئة، ونزِّهُوها عن النقيصة، واملؤها بالصالحات.