آلام الباحث في تاريخ لبنان) يداويه كتاب الدكتور محمد علي ضناوي (قراءة اسلامية في تاريخ لبنان والمنطقة)

بسم الله الرحمن الرحيم

المؤرخ الدكتور عمر تدمري:

(آلام الباحث في تاريخ لبنان) يداويه كتاب الدكتور محمد علي ضناوي

(قراءة اسلامية في تاريخ لبنان والمنطقة)

 كتاب مشوق حافل بالموضوعات الحساسة الخطيرة

كتب د. عمر تدمري تقريظه لكتاب (القراءة الإسلامية في تاريخ لبنان والمنطقة وفيما يلي النص كاملا:

من الاطلاع على مناهج وزارة التربية والمناهج الجامعية، وعلى مجمل الكتابات التاريخية التي تحدثت عن تواريخ لبنان، نجد أن تاريخ جبل لبنان يكاد يكون هو تاريخ لبنان، فكأن لبنان هو الجبل والجبل هو لبنان. أما تاريخ المناطق التي ألحقت بالجبل لتكوّن دولة لبنان الكبير فلا تأريخ لها إلا بالقدر الذي يخدم تاريخ أمراء الجبل أو يرتبط بهم.. وهكذا تنشأ الأجيال اللبنانية من كافة المناطق وهي تشرئب بأعناقها نحو الجبل لتقط كل شاردة وواردة عن أمرائه ابتداء بفخر الدين وانتهاء بالمتصرفية، مرورا ببشير الأول والثاني والثالث... بينما نرى هذه الأجيال بمن فيهم أبناء الجيل لا يعرفون شيئا عن تاريخ المحافظات الأربع الأخرى كطرابلس وبيروت وصيدا والبقاع اللهم إلا النذر اليسير، وكأن التمييز في المناطق في لبنان الكبير الحديث لم يكن في العمران والمواطنية فحسب وإنما تعدى ذلك إلى الإهمال المتعمد لتاريخ تلك المناطق لكي تشب الأجيال متجهة إلى أن الجبل ومواطنيه هما لبنان الوحيد والأصيل والجدير بالاهتمام والتأريخ.

فتاريخ الساحل اللبناني والبقاع يدرس بعناية في العصور القديمة حيث الأشوريون والكلدانيون والرومان وقبلهم الفينيقيون... أما عندما يأتي دور الفتح الإسلامي فالحديث عن الساحل شبه معدوم حتى الحروب الصليبية... ثم يدرس الساحل ــ في تلك الحروب ــ كإمارات صليبية لا كحركات جهادية ضد المحتل الغاصب... كذلك لا تدرس علاقة الموارنة مع المسلمين من جهة ومع الصليبيين من جهة أخرى. وكيف أن "بشري" المارونية مثلا، وهي الثقل الماروني يومئذ تعاونت مع مسلمي دمشق أثناء الزحف لتحرير طرابلس من ربقة الصليبيين، وكيف أن الموارنة انقسموا على انفسهم إزاء الصليبيين ، وكيف أن هؤلاء اضطهدوا "بشري" وغلّبوا الاتجاه المتعاون معهم، مؤثرين فيهم حتى في عقيدتهم اللاهوتية؟ ثم يأتي الحديث مجتزأ وسريعا عن آل عساف في بيروت وغزير، لننتقل بعدهم ببحبوحة وراحة إلى الأسرتين المعنية والشهابية باعتبارهما من الجبل، فمجازر القرن التاسع شعر، فالقائمقاميتين، فالمتصرفية ، فجمال باشا السفاح، فالانتداب، فلبنان الكبير...

ولا شك أن الذي يقرأ التاريخ بهذا الشكل يدرك أن الساحل لا تاريخ له أو انه ذو تاريخ هامشي بالنسبة للجبل، فلا يدرس منه إلا ما كان مرتبطا بأحداث الجبل..".

إنها حقيقة واقعية يتألم لها الباحث، بل القارئ المتجرد لتاريخ "لبنان" ــ ان كان هناك ما يصح تسميته بـ "تاريخ لبنان" ــ ، فالدكتور محمد علي ضناوي قد أصاب كبدَ الحقيقة في طرحه لهذا الموضوع عبر كتابه الجديد "قراءة إسلامية في تاريخ لبنان والمنطقة من الفتح الإسلامي ونشأة المارونية حتى سنة 1840"

ونحن نقره في طرحه الصادق، ونتفق معه في القول بأن باحث متجرد لا شك أنه سيكشف سوء قصد واضعي المناهج التربوية، وخاصة "التاريخية" منها، في أن الجبل لم يكن منذ الفتح الإسلامي وحتى المتصرفية ولاية بنفسه، بل كان دوما جزءاً تابعا في قسمه الشمالي لولاية طرابلس، وبقسمه الجنوبي لولاية صيدا، فصيدا وطرابلس ولايتان مهمتان وأساسيتان امتدت حدودهما في فترات تاريخية لانطاكية شمالا، ولغزة في فلسطين جنوبا... وكانتا ذات حضارة وصناعة وتجارة وعمران، ولعبتا دوراً مهما في تاريخ المنطقة عموما، وفي جبل لبنان على الأخص. ويكفي انه بسبب ولاية طرابلس ابتدأ الصراع لاهبا بين إبراهيم باشا والدولة العثمانية عام 1832، فلا يعقل أن تدرس مقاطعات جبل لبنان التابعة لولايتي طرابلس وصيدا، وتهمل الولايتان إلا ما كان من تاريخهما ضروريا لتوضيح صورة الجبل؟!

وهذه الحقيقة التي يقررها الدكتور "ضناوي" بصراحة واضحة، يقرنها بجرأة الباحث والمفكر الصادق حين يقول: "إنّ واضعي الناهج ــ وأكثرهم من الموارنة ــ قصدوا الوصول إلى النتيجة "المرسومة" فقلبوا الأمور، وجعلوا الجبل أساسا لمحور التاريخ اللبنانية بدل أن يكون تابعا لمحورين آخرين، هما ولايتا طرابلس وصيدا حسب الواقع التاريخي مستهدفين من وراء ذلك إيجاد نشء ينقاد بصورة غير إرادية إلى تبني محورية الجبل وتركيز اهتمامه حوله قابلا بفوقيته، مع ما يستتبع هذا من حصر الرئاسة الأولى بالموارنة الذين رسمهم التاريخ قوة فاعلة وأساسية.. غير أن حساب واضعي المناهج لم يتطابق مع محصلة المسخ والاجتزاء، مما أدى إلى تأصيل التنافر بين مجموعات السكان بدل التبعية التي أرادوها".

ومن المرجح أن أولئك ما كانوا ليطمسوا معالم التاريخ في بلاد الساحل والبقاع إلا لكونها مسلمة تتبع بصورة شاملة الدولة الإسلامية في دمشق وبغداد والقاهرة واسطنبول، فالمسلمون ــ اللبنانيون عند ولادة لبنان الكبير ــ كانوا مع بلادهم جزءاً لا يتجزأ من الدولة يتبعونها في كل استراتيجيتها، ولا ينفصلون عنها في المفاهيم والشريعة والحضارة.. فلا يصح في نظر منظري التاريخ اللبناني ــ وأكثرهم موارنة ــ إيلاء الساحل الإسلامي أهميته التاريخية ودرسه على انه هو صاحب السيادة الفعلية على الجبل في شماله وجنوبه ... إذ إن دراسته بشكل موازٍ ــ على الأقل لدراسة الجبل يذكي روح الوحدة ويؤكد مشاعر الاندماج مع سائر العرب المسلمين في المنطقة.. كما يقرر ــ من جهة أخرى ــ الواقع التاريخي الصحيح من أن الجبل المجزأ كان بقطاعاته تابعا لا متبوعا، وكان جزءا من الساحل وليس كيانا قائما بذاته.. وتلك رؤية تتناقض مع الأهداف التي سعى اليها ، بجهد شاق متواصل، مؤرخو المارونية وهم واضعوا المناهج التاريخية اللبنانية".

بهذه الصراحة ، وهذه الجرأة، يعرض الدكتور محمد علي ضناوي اهم القضايا التاريخية الحساسة في تاريخ ساحل الشامل والمنطقة المتوسطة من هذا الساحل بشكل خاص ــ وهي جرأة افتقدناها عند الكثير من المؤرخين والباحثين المحدثين ــ ، ويمكن أن نستثني بعضهم، ولكن في نطاق ضيق مثل المرحوم محمد جميل بيهم، والدكتور زكي النقاش، والشيخ طه الولي، وغيرهم ممن كتبوا مقالات في الصحف والمجلات، ولم تمكنهم قدراتهم من طرح أفكارهم ودراساتهم في كتب تقتنى أو يسهل تداولها.

والذي يؤلم في هذا المجال أن كثيرا من أدعياء الثقافة من شبابنا يصنع دراسات المستشرقين وكتاباتهم في المرتبة الأولى لقائمة المصادر والمراجع التي يعتمدونها مصدرا أساسيا لأبحاثهم، ويضربون عرض الحائط بالمصادر التاريخية العربية الأساسية التي نقل عنها المستشرقون، واغفلوا ـ عن جهل أو عن تقصير ــ المصادر الأخرى غير التاريخية البحتة، ككتب البلدان والرحلات والأدب والتراجم والطبقات والحديث.. وغيرها .وهي مصادر تحتوي على كمية هائلة من الوقائع التاريخية والأحداث التي قد لا نراها في كتب التواريخ المعتبرة.

وبما أننا بصدد "القراءة في تاريخ لبنان والمنطقة" التي جسدها الدكتور ضناوي بكتاب مشوِّق، حافل بالموضوعات الحساسة الخطيرة، عارضا لها بأسلوب مباشر يتفق مع طبيعة تخصصه كرجل قانوني يمارس مهنة المحاماة، باحث عن الحقيقة، ليكون حكمه صادقا في النهاية، بعد تقليب القضية الموضوعة أمامه من كل جوانبها.. فإن الأمثلة القريبة التي يمكن أن نستشهد ببعضها، هي أن الأغلبية من باحثينا ــ في لبنان على الأخص ــ يعتمدون على كتابات المستشرقين، وكتابات رجال الكنيسة المسيحية على وجه الخصوص حين يريدون قراءة أو كتابة مرحلة ما من المراحل التاريخية في لبنان أو المنطقة المحيطة به ، مثل كتابات الأب هنري لامنس، والمطران يوسف الدبس، والبطريرك اسطفان الدويهي، والأب بطرس ضو، والخوري قرألي، وابن القلاعي، وكتابات غيرهم من النصارى كطنوس الشدياق، وجواد بولس، وفيليب حتي، وأسد رستم، وفيليب طرازي، والمطران يوسف دريان، ومارتن اليسوعي، ولويس شيخو، وغيرهم . ويهملون عن جهل، أو عن قصد المصادر الأساسية لمشاهير المؤرخين المسلمين كالطبري والبلاذري، والمسعودي، وابن الأثير وابن خلدون والمقريزي، وابن عساكر وابن العديم الحلبي، والصفدي، وابن كثير، والعماد الأصفهاني، وابن القلانسي، وابن حجر، والسيوطي، والصيرفي، وابن مسكويه، والخطيب البغدادي، والنويري، وابن الوردي وأبي الفداء واليافعي وابن تغري بردي، وغيرهم من عشرات بل مئات المؤرخين المسلمين الثقات.

ولقد وقع الدكتور كمال سليمان الصليبي في وهم مصداقية مؤرخي النصارى ورجال الكنيسة فاعتمد على كتاباتهم في بدايات أبحاثه عن تاريخ لبنان دون الالتفات إلى الحقائق التاريخية الصادقة في بطون المصادر العربية المعتمدة، حتى وعى الحقيقة ووجد أن المنهجية العلمية الأكاديمية تقتضي العودة إلى كل المصادر، عربيّها وأجنبيّها مسلمها ومسيحّها، لتقرير الحقيقة التاريخية التي لا يمكن أن تصاغ بالعاطفة الشخصية أو الدينية أو العصبية. ونرى هذا التحول عنده في مقدمة كتابه "منطلق تاريخ لبنان" الذي وضعه بالإنجليزية، ثم ترجم إلى العربية.

والدكتور محمد علي ضناوي بنشر قراءته في كتاب من 430 صفحة وفي هذه المرحلة القلقة التي يمر بها لبنان والمنطقة، يكون قد أسقط واجبا دينيا وحضاريا بقدر ما هو واجب علمي، يترتب على كاهل كثير من أدعياء العلم والثقافة والأكاديمية، الذين أفسحوا المجال أمام الكتابات المتعصبة والطائفية والحاقدة والمشوهة لتاريخ امتنا العربية، لتغرق المكتبات وتضلل العقول.

أما الموضوعات الحساسة التي أثارها الدكتور ضناوي وناقشها في كتابه فهي كثيرة، وهذا أمر طبيعي، نظرا للحقبة الطويلة التي يقرأ لها، والتي تمتد تاريخيا من القرن السابع حتى التاسع عشر، ومن تلك الموضوعات : نشأة المارونية، وما رافق هذه النشأة من صراع ديني مع أباطرة الروم، واليعاقبة، والخلاف حول طبيعة المسيح عليه السلام، وهجرة الموارنة إلى جبال لبنان الشمالية في العهد الأموي، وحقيقة "المردة"، وحركات الموارنة في العهدين : الأموي والعباسي، وعلاقات الموارنة بالدولة البيزنطية، وأوروبا الغربية، وموقفهم من الحملات الصليبية إلى الشرق الإسلامي، وما نتج عن ذلك من تحالفات وانشقاقات في صفوف الطائفة، وموقف دولة المماليك منهم، إلى أن يصل المؤلف إلى عهد فخر الدين المتآمر على السلطنة العثمانية وهو تابع لها، وعلى البلاد "لبنان" وهو أمير عليها"؟ والهدف من تسليط الأضواء على تاريخ الأمير "مؤسس لبنان الحديث" وإسدال الستار على مواقف غيره من الأمراء والولاة الوطنيين، وحقيقة عقيدته الدينية، وطمس المواقف العادلة والمتسامحة عند السلاطين العثمانيين ووصفهم بالمستعمرين المتسلطين الظالمين، ودور فرنسا المتميز في لبنان وعلاقاتها مع الموارنة وتمثيلهم أمام الدولة العثمانية، ودور الإرساليات الأجنبية وصولا إلى عهد الشهابيين، وحملة إبراهيم باشا وموقف طرابلس منها... وغير ذلك من الموضوعات التي يحتاج كل منها إلى دراسة وافية في اطار تاريخ الأمة، وليس في إطار تاريخ الوطن أو الطائفة.

فالكتاب، فضلا عما يحتويه من موضوعات لها أهميتها البالغة في المسار التاريخي، قد صيغ بأسلوب متين في العرض والتعبير والمناقشة، ولم يفتقر المؤلف الفاضل في كل "القضايا" التي أثارها إلى الحجة والمنطق والتحليل العلمي الذي يدعم وجهة نظره، فأتت الكلمات المعبرة عن الفكرة التي يريد مطواعة منسابة من قريحته النابهة، فجسدها بقلمه في قراءة واسعة تضاهي بشموليتها فكر المؤرخ السياسي، رغم انه لم يدّع الكتابة التاريخية بمعناها الصحيح.

لقد قلّ في الآونة الأخيرة ان انصرف لقراءة كتابٍ ما من أوله إلى آخره، إلا ما ندر، لتفرغي للتأليف والتحقيق معظم ساعات الليل والنهار، ولكن كتاب الدكتور المحامي محمد علي ضناوي شدني إلى مطالعته ورقةً وراء ورقة، وفصلا وراء فصل حتى أنهيته في جلسة واحدة، وذلك لميزتين اثنتين: أهمية الموضوع، والأسلوب الممتع في العرض.

ولا شك في أن هذا الكتاب سيجد ما يستحقه من التداول والانتشار، كما سيثير طرح الدعوة إلى إعادة كتابة تاريخ "لبنان"، بل تاريخ الأمة العربية والإسلامية من جديد.

أستاذ دكتور

عمر عبد السلام تدمري

أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة

الجامعة اللبنانية طرابلس